الدعاء على المكذبين
بعد أن بذل نوح غاية جهده في سبيل هداية قومه، وبعد أن ضاقت في وجهه كل السبل لإصلاحهم، عندئذ لجأ الى ربه يشكو قومه : «قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .
كما دعا على قومه بالهلاك : «وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا» .
دعا نوح ربه ان لا يترك على الأرض احداً من الكافرين ، لأنه سبحانه وتعالى إن ترك الكافرين متمادين في ضلالهم أضلوا غيرهم عن الحق ونشروا آثامهم وانتقل فسادهم الى ذريتهم بالوراثة فهم لا يلدون إلا من كان على شاكلتهم في الكفر والفجور .
صنع سفينة النجاة
استجاب الله لدعاء نوح ، وأراد سبحانه قبل ان يهلك قومه المكذبين أن يهيء له وللمؤمنين برسالته اسباب النجاة فأوحى اليه انه لن يؤمن أحد سوى من آمن وأمره بأن لا يحزن بسبب تكذيب الكافرين له وإيذائهم إياه لأن الله سيغرقهم اجمعين .
أمر الله نوحاً ان يصنع سفينة النجاة، وأعلمه سيكون أثناء صنعها محاطاً بعنايته مشمولاً برعايته، ونهاه أن يدعو للكفار بالنجاة بعد ان أصروا على كفرهم لأنه حكم عليهم بالغرق. شرع نوح في صنع السفينة وكان تحوله من داع إلى الله الى نجار سبباً في تعجب الكفار منه والسخرية به .
وكان نوح إزاء سخريتهم يقول لهم : إن كنتم تهز أون بي وبمن معي من الذين آمنوا فإننا سنهزأ بكم عما قريب لأني اعلم ما سيحل بكم من عذاب وهلاك ، وسوف تعلمون من سيأتيه عذاب يذله في الدنيا ، كما سيحل عليه في الآخرة عذاب دائم خالد .
قال تعالى : «وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ» .
بدء الطوفان
أتم نوح صنع السفينة وظهرت علامات بدء العذاب وهي تفجر الماء من الأرض فأمر الله نوحاً ان يجمع من كل صنف من الأحياء والحيوانات زوجين : ذكراً وأنثى ليحملهما معه في السفينة لأجل ان تبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض .
كذلك أمر الله نوحاً ان يحمل معه في السفينة جميع أهله وأقاربه باستثناء اثنين منهم كفرا بالله هما إحدى زوجاته وأحد أبنائه ، كما أمره ان يحمل معه في السفينة المؤمنين من غير أقاربه وهم قليلون .
أعد نوح الفلك وقال للذين آمنوا اركبوا فيها متيمنين بذكر اسم الله تعالى وقت سيرها ووقت وقوفها ، لأن السفينة ليست سبباً لحصر النجاة بل يجب عليهم ان تتجه قلوبهم الى الله فإنه هو المجري والمرسي للسفينة ، كما ذكرهم بأن الله واسع المغفرة رحيم بعباده المؤمنين حيث انجاهم من الهلاك ، ثم سارت السفينة بعد ان علا الماء وسط موج بلغ من الضخامة والعلو ضخامة الجبال وعلوها .
«حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ» .
حصول الطوفان
واخبرنا القرآن ان نوحاً دعا ربه بأن ينتقم من قومه فاستجاب الله دعاءه فأرسل من السماء مطراً غزيراً لم تعهده الأرض من قبل ، وأمر الأرض بأن تتفجر منها المياه من سائر أرجائها، فاجتمع ماء السماء وماء الأرض ليحصل من جراء ذلك الطوفان العظيم الذي قدره الله لهلاك الكافرين بدعوة نبيه ، مهيئاً سبيل النجاة لنوح ومن آمن معه على السفينة التي سارت بحفظ الله ورعايته .
وهذا ما ذكره الله سبحانه : «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ» .
غرق ابن نوح
تذكر نوح في بدء الطوفان ابنه ودفعته عاطفة الأبوة ان يناديه ليركب في السفينة مع سائر أهله وقد كان بعيداً عنها بسبب إصراره على الكفر فقال له : يا بني اركب معنا لتنجو من الغرق ، ولا تكن مع الكافرين الجاحدين بدين الله .
ولكن الولد لم يستجب لنداء أبيه ، وأصر على عصيانه ، وظن ان ما يجري عوارض طبيعية عادية ، وكان يأمل ان ينجو بدون ركوب السفينة ، فقال لأبيه : سألجأ الى جبل لا يصل الماء اليه فأنجو من الغرق .
فرد عليه ابوه : ليس هناك أية قوة تحول بين أحدٍ وبين الغرق الذي قدره الله جزاء للكافرين، وأبي الابن ان يستجيب لنداء أبيه ، وظن ان محاولته لبلوغ قمة الجبل تنجيه من الغرق ، ولكن قوة المياه وهياج الأمواج جرفت الابن الضال الكافر .
«يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ، قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» .
نوح يطلب النجاة لابنه
ثارت الشفقة في قلب نوح على ابنه فسأل ربه ضارعاً ان ينجي ابنه، ألم يعده ربه من قبل بأنه سينجيه مع اهله ؟ وابنه من اهله، والله إذا وعد وفي وهو اعدل الحاكمين .
فأجاب الله نوحاً : بأن ابنه الكافر ليس من أهله الذين وعدهم بالنجاة لأنه لم يؤمن بل أصر على الكفر ، وقد عمل أعمالاً غير صالحة ، ونهى الله نوحاً ان يطلب طلباً إلا إذا كان على يقين انه حق وصواب ، كما نهاه ان يكون من زمرة الظالمين الذين يشفعون في عقاب الله ولو كان المجرم ابنه ، ويدعون شفقة الأبوة تتغلب على حكم الله.
ندم نوح على ما صدر منه واعترف بذنبه قائلاً : إني اعتصم بك يا رب واحتمي بك أن اسألك بعد الآن ما لا يرضيك وإن لم تتفضل علي بمغفرتك وترحمني بفضلك اكن في عداد الخاسرين .
«وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ» .
انتهاء الطوفان
ولما هلك الكفار من تأثير الطوفان أمر الله الأرض بأن تبلع ماءها ، وأمر السماء بأن تقلع وتكف عن المطر ، فانحسر الماء عن الأرض بعد ان قضى الله بهلاك الظالمين واستوت السفينة راسية عند الجبل المسمى بالجودي ، عندئذ نودي على الكفار الهالكين بلسان القدرة الإلهية : بعداً لهؤلاء الظالمين عن رحمة الله ومغفرته .
قال تعالى في وصف ذلك : «وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » .
النزول من السفينة
وبعد ان رست السفينة على الجيل وابتلعت الأرض مياه الطوفان أمر الله نوحاً ان ينزل من السفينة إلى الأرض . فهبط بأرض الموصل محفوفاً ببركات من الله هو ومن آمن معه وذرياتهم ممن سيكونون أمماً مؤمنة ، وبعضهم سيكونون أمماً يستمتعون بالدنيا وخيراتها ، ولكن لن ينالوا بركة الله لأنهم سينحرفون عن جادة الحق وسيغويهم الشيطان ويؤدي بهم الى عذاب الله في الدنيا والآخرة .
قال تعالى : «قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ» .
مجمل القصة
وفي نهاية القصة وجه الله خطابه الى محمد قائلاً : تلك القصة التي قصصناها عليك عن نوح وقومه هي من أخبار الغيب، ما كنت تعلمها انت ولا قومك على هذا الوجه من الدقة والتفصيل من قبل هذا الوحي الذي أوحينا به اليك ، فاصبر على إيذاء قومك كما صبر نوح من قبلك فإن عاقبتك الفوز مثل نوح ، والعاقبة الطيبة دائماً للمتقين .
وقد صدق الله وعده ونصر الله رسوله محمداً على أعدائه، كما نصر نوحاً من قبل، وهذا من أعظم الأدلة على أن القرآن وحي الهي، وأن بعثة محمد حق و صدق لأن الله اخبر عن أمور غيبية ستحصل وقد حصلت فعلاً ، ولا يعلم الغيب إلا الله .
اکتشاف آثار للطوفان في العراق
الظاهر في القرآن والحديث الشريف يدل على أن الطوفان كان شاملاً لقوم نوح فقط وهذا لا يقتضي ان يكون الطوفان عاماً للأرض ، إذ لا دليل على أن البشر كانوا يقطنون الأرض كلها بل كانوا منحصرين في منطقة معينة وهي التي عمها الطوفان
ولم يجرؤ أحد من العلماء على تصور أنه من الممكن العثور على دليل مادي يثبت وقوع الطوفان فعلاً، فقد كان يبدو أن اكتشاف آثار تاريخية تثبت حدوث الطوفان العظيم من المستحيلات .
وعندما قصد السير ليونارد وولي الى العراق في أوائل سنة ١٩٢٠ وهو يرأس البعثة التي اشترك فيها المتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا الأميركية لم يكن بالتأكيد يفكر في الطوفان ، فقد كان الغرض من البعثة التنقيب عن آثار جزء من التاريخ من الماضي .
وقد أدت الحفريات التي قام بها في الروابي التي تقع على أربعة أميال شمالي ( اور ) في مكان يعرف باسم ( تل العبيد ) والحفريات التي قام بها في مدينة ( اور ) في المكان الذي كانت فيه المقابر الملكية .
أدت هذه الحفريات الى اكتشاف طبقات من الطمي على عمق كبير طمرت فيها كميات من الأواني الفخارية والأدوات الصوانية مما كان يستعمل في العصر الحجري ، وكذلك تماثيل من الفخار واجزاء من الملاط لا تزال منطبعة عليها آثار أعواد البوص التي كان مضغوطاً عليها .
وقد دل الفحص المجهري على المياه هي التي رسبت هذا الطمي، وأنه يتكون من مواد جرفتها المياه من المنطقة الوسطى لنهر الفرات ، وهذا كله دليل لا ينقض على وجود طوفان غمر تلك المناطق من زمن بعيد .
وقد دلت بحوث السير ليونارد على ان ارتفاع الفيضان لم يكن أقل من خمس وعشرين قدماً، وكان ارتفاع الطوفان كما ورد في التوراة ستاً وعشرين قدماً .
وكان من رأي السير ليونارد أن الطوفان لم يشمل الدنيا كلها، ولكنه كان سيلاً عرماً طغى على وادي دجلة والفرات واغرق كل المنطقة المأهولة الواقعة بين الجبال والصحراء ، وكانت هذه المنطقة بالنسبة لسكانها هي الدنيا بأسرها
وقد سجل سكان الوادي بعد الطوفان قصة الطوفان على اثني عشر لوحاً ذكروا فيها غرق سكان هذه المنطقة باستثناء رجل ورع بي سفينة ركب فيها وأخذ معه افراد أسرته وبعض الحيوانات والدواب ، وهؤلاء وحدهم هم الذين كتبت لهم النجاة .